صلح الحديبية
في السنة السادسة للهجرة وعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بالعمرة، ولهذا خرج الرسول -صلى الله عليه وسلم- في ألف وأربعمائة من أصحابه إلى مكة ليس معهم إلا السيوف في القِرَب، وقد وصل الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى الحديبية، وهي مكان يبعد عن مكة ما بين 50 أو60 كم تقريباً، وقد عمد الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى اتخاذ كل السبل ليُقنع أهل مكة بأنه جاء مُعتمراً، ولم يأت محارباً، ومع ذلك فقد رفَضوا تركه ومن معه من المسلمين يعتمرون، ويدخلون المسجد الحرام، إلا أنّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- حافظ على الصبر، والأخذ بأسباب السلام ما أمكن.
لقد اضطر الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى التوقف في الحديبية وأمر أصحابه بالتوقف، على الرغم من إيمانه بنفسه وشجاعة أصحابه، وكان يعلم أنه لو التجأ إلى الله تعالى وتوكّل عليه وقاتلهم فسيَغلبهم، غير أنه لم يفعل ذلك وفضّل الانتظار.
وعندما وصل المنع والعرقلة مرحلة معينة تبايع مع أصحابه.. تبايع على القتال حتى الموت في سبيل الإسلام، هذه البيعة التي باركها الله تعالى من فوق سبع سماوات: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ (الفتح: 18-19).
والحقيقة أن قرَيشاً التي كانت تظهر أنها تملك الكعبة اضطرت إلى قبول الأمر الواقع في معاهدة الصلح التي وقعت عليها كما وقع عليها الرسول -صلى الله عليه وسلم-، إذ قالت للرسول -صلى الله عليه وسلم-: «وإنك ترجع عامك هذا فلا تدخل علينا الكعبة، وإنه إذا كان عام قابل خرجنا عنها فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثاً معك سلاح الراكب، السيوف في القِـرَب لا تدخـلها بغيرها»، ومعنى هذا أن المسلمين شركاء في الكعبة أيضاً، وأن لهم ديناً حنيفاً على ملّة إبراهيم، بينما كان المفهوم السائد حتى آنـذاك أن مكة والكعبة ملك للمشـركين، وما كان لأحـد أن يضـع شـعائر خاصة ومختلفة، بينما كـان مـن ضمن شروط معاهدة الحديبية حرية المسلمين في أداء الحج والطواف حول الكعبة بشعائرهم الخاصة بهم.
وبعد مفاوضات ظهرت فيها إساءات من رسل قريش، وآخرهم سهيل بن عمرو، وغضب لها أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتغاضى عنها الرسول -صلى الله عليه وسلم- إيثاراً للسلام على الحرب، وقعت اتفاقية الهدنة والسلام لمدة عشر سنوات بين الطرفين، وسرعان ما تبين للمسلمين أن إيثار الرسول للسلام كان خيراً وبركة وفتحاً مبيناً.
لقد كان المفاوض من قِبل قريش «سُهيل بن عمرو» يَعُدّ كل تنازل يقتطعه من المسلمين نصراً كبيراً له؛ لذا فإنه كان يعترض حتى على أصغر المسائل؛ فمثلاً عندما دعا الرسول -صلى الله عليه وسلم- عليًّا رضي الله عنه ليكتب معاهدة الصلح مع قريش، قال له: «اكتب (بسم الله الرحمن الرحيم)» فقال سهيل: «اكتب: باسمك اللهم» فكتبها، ثم قال -صلى الله عليه وسلم- اكتب: «هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو»، فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فأشار الرسول -صلى الله عليه وسلم- لعليٍّ رضي الله عنه أن يمحو كلمة «رسول الله» التي كان قد كتَبها، وتردّد عليّ رضي الله عنه، إذ صعب عليه محو كلمة «رسول الله» فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- بمحو تلك الكلمة بنفسه بعد أن دلّه على مكانها عليّ، وقال: «اكتب؛ هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو، واصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس، ويكفّ بعضهم عن بعض، على أنه من أتى محمداً من قريش بغير إذنِ وليّه ردّه عليهم، ومن جاء قريشاً ممن مع محمد لم يرده عليه».
وقد قبل النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الشرط الجائر لحكمة رآها على الرغم من تبرّم بعض الصحابة، وعلى رأسهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وهكذا يرينا صلح الحديبية بملابساته وشروطه المدى الذي وصل إليه إلحاح الرسول -صلى الله عليه وسلم- على طلب السلام؛ لأن ظروف الأمن والسلام هي المناخ الملائم لدعوة الإسلام التي يراد لها الدخول إلى القلوب والعقول، ومن البديهي أن مناخ الحرب والقتال لا مكان فيه لتفتح العقول والقلوب على الحق، ولا على الحوار الإيجابي، وكما أثبت التاريخ فقد كان هذا الصلح على ما فيه من إجحاف فتحاً مبيناً، وفيه نزل قوله تعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً﴾ (الفتح: 1
).