الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ
أيها الأفاضل : السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
إن رمضان شهر الانتصارات الحاسمة في تاريخ الإسلام على اعتبار أن الغزوتين اللتين كان لهما أبعد الأثر في دعوته و هما غزوتا بدر و فتح مكة كانتا في هذا الشهر الخالد في الشهور على مدى الدهور ، و فتح مكة تشير إليه فاتحة الفتح (( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك و ما تأخر و يتم نعمته عليك و يهديك صراطا مستقيما و ينصرك الله نصرا عزيزا )) .
و أبرز ما تصوره هذه الآيات أنها تبني لنبي الإسلام مجدا لا يطال و لا تمتد إليه الأوهام ، يبدأ هذا المجد من اعتباره مكافأة من الله لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي تؤديه لفظتا (( فتحنا لك )) هكذا ، فالفاتح هو الله لا محمد ، لأن الله هو الموفق و المعين أو أنه الفاعل الحقيقي لما يجري في الكون ، كما في بدر حيث قال تعالى : (( و ما رميت إذ رميت و لكن الله رمى )) ، و في قوله تعالى : (( قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم )) ، و ليست سواعد المسلمين و عزائمهم إلا آلات تحركها يد القدرة الدبرة الموجهة .
و المفتوح له هو محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي أخرج من مكة بلده المحبوب في سبيل نشر دين الله و جعل كلمته العليا و كلمة الذين كفروا السفلى ، فالجزاء العادل يقتضي هذه المكافأة و تقديمها في عبارة مشعرة و لافتة إلى المعنى الذي اقتضاها .
ففتح مكة ـ إذن ـ زيادة على أنه نصر لدين هو مكافأة ضخمة لمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ و تكريم فخم له على كفاحه العظيم و حرصه الشديد على هداية قومه و صبره العجيب على ما لقيه في سبيل ذلك من آلام و أتعاب و مرارة و اغتراب ؟
ثم يأتي بعد ذلك التفصيل : (( ليغفر لك ما تقدم من ذنبك و ما تأخر و يتم نعمته عليك و يهديك صراطا مستقيما و ينصرك الله نصرا عزيزا )) و أيّ تكريم بقي بعد هذا التكريم ؟؟ و أيّ إنعام يأتي بعد هذا الإنعام ؟؟ و أيّ أمل بقي لمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يصل إليه ؟ بعد أن يغفر الله ذنبه و يتم نعمته عليه و يهديه صراطه المستقيم و ينصره النصر الذي سيعقبه كل نصر و الذي أعزه الله به بعد ذل و قوّاه بعد ضعف و أشعر مهابته كل قلب ؟؟
فكيف قابل الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذه النعمة ؟؟
لقد قابلها والله بما ينبغي لها من تواضع لله ، و حلم على الجناة ، فبعد أن دخل مكة في ذلك المشهد الرهيب و المهرجان التاريخي الهائل عمد إلى البيت الحرام فحطم ما علق فيه من أصنام ـ و كان به 360 صنما ـ و هو يقول : (( جاء الحق و زهق الباطل إن الباطل كان زهوقا )) ، (( جاء الحق و ما يبدئ الباطل و ما يعيد )) ، و بعد أن توسط البلد الذي أخرج منه ظلما اتجه ببصره إلى أهله الذين أخرجوه منه قائلا : (( ما تظنون أني فاعل بك ؟ قالوا : خيرا ، أخ كريم و ابن أخ كريم ، فقال : إني لا أقول إلا ما قال أخي يوسف لإخوته : لا تثريب عليكم اليوم ، اذهبوا فأنتم الطلقاء )) .
و هكذا الرجل العظيم لا تطغيه النعمة ، و لا يبطره اجتماع أسباب القوة ، و هكذا عقبى الصابرين المتقين ، قال تعالى : (( و لينرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ))