من بين دخان عوادم السيارات و غبار تثيره أقدام لم تعتد المشي على رصيف لم يبق منه سوى ما يشهد على إهمال و حال رثة، كان يحاول استنشاق أوكسجين يمارس الهروب أمام حاجته إليه و هو يضع يده لى أنفه!.. خطواته تملأها السكينة و التأني رافضا بذلك الإنتماء إلى محيطه الذي تملأه الفوضوية السريعة و المنتظمة في عفوية و انسياب.. كُتل هلامية ضبابية يختلط فيها البشر بالحجر، و السائل بالصلب و الغاز.. شارع فارع يغشاه الضيق أمام عينيه و هو يبحث عن المستشفى في أفق بعيدٍ استحال عنده الشارع بفوضويته و زخمه و زحمته خيالا يمارس الضياع في أعماق اللاشئ!
تراءت له بناية المستشفى فعرف مدى اتقاد الحماس بداخله، حماس ذكره بأول أيامه في الكلية حين سألته السكرتيرة سبب اختياره مجال الطب كتخصص؟ّ.. و هو سؤال كثيرا ما كانت تطرحه على إخوته من أبناء جلدته، فكانت إجابته عامة جافة لا تعدو أن تكون إجابة و هي أنه يريد أن يقدم خدمة لبلده بدراسته للطب.. لتردف السكرتيرة إجابته لها بسؤال : و هل موريتانيا مريضة تحتاج أطباء؟!! تساءلت و هي ملتفة عنه ليعرف طعم الإنكسار بداخله حين سافر بذاكرته إلى مواطن الألم في مناكب الوطن!، أعطته السكرتيرة شكلية راجية منه ملأها ببياناته الشخصية و كأنها بذلك تقول له بأن إجابته لا تهمها! عاوده الإنتباه و هو واقف عند باب المستشفى و الشرطي يتأمل بطاقته ليعيدها إليه بطريقة مهذبة على عكس الطريقة التي أخذها بها منه!!.. تناول ببطاقته و كله شوق إلى دخول مستشفى وطني لأول مرة في حياته و ذلك بعد سنين من العناء و الدراسة في مستشفيات أخرى نال منها رصيدا مكنه من العودة و كله ثقة و حماس و أحلامه أكبر من آلام وطنه! ودع غبار الشارع و دخانه و استنشق عبيرا من نوع آخر اعتاد عليه في المستشفيات إلا أنه كان أشد تركيزا و أكثر حدة! ألقى نظرة على ساعته فكانت تشير إلى السابعة و النصف فاستغرب الهدوء المنتشر في أرجاء البناية في هذا الوقت.. أروقة يغتالها الصمت كأشد ما يكون وحشة، و غرف كأن ساكنيها الأموات و أنصاف الأحياء، و الهدوء يمارس الإنتشار بغطرسته مهيمنا على المكان إلا أن صوتا غير مفهوم يأبى إلا أن يشق ذلك الهدوء.. لا إراديا تبع الصوت القادم من أعماق أحد الأروقة فصار يتفقد الغرفة تلو الأخرى و الإقتراب يمنح الصوت وضوحا أكثر، فبدا كحشرجة و بكاء، ثم بدا بعد ذلك كتمتمة و كلام غير مفهوم، ثم أنينا يملأه الألم و النحيب!.. وقف أمام الغرفة التي يصدر منها الصوت و بابها نصف مفتوح وضع يده عليه يريد أن يفتحه ليعرف ما وراءه فوصله صوت امرأة تقول : تفضل .. ماذا تريد؟.. أم أن السكر و الشاي نفدا.. مائة أم مائتين .. طبعا أرسلك الطبيب أنت لا ذنب لك .. مر إحشمك لا تكسح كيف كنت دايمن!! على وجهه ارتسمت علامة تعجب كبيرة شملت جميع ملامحه! واصلت المرأة : أم أنك تريد الطفل؟.. تفضل خذه إنه ميت .. أم أنكم هكذا تريدونه ربما في بعض صفقاتكم تستفيدون من الأموات كتجارة مربحة! أصبح كله علامات تعجب و هو ينظر إلى المرأة التي تكلمه بألم و غضب و في النهاية لا تقول إلا ألغازا!!.. زاد تعجبه عندما رأى غفوة الحياة في عيني الطفل الذي تحمل المرأة بين ذراعيها! فجأة سقطت المرأة على الأرض فاقدة لوعيها، وجد نفسه يندفع نحوها محاولا أن يعيدها إلى وعيها بما تعلمه من إسعافات أولية، بلا جدوى كرر المحاولة مرات فقرر أن يبحث عن المساعدة حاملا المرأة التي لم يكن وزنها عائقا كبيرا أمام اندفاعه بها خارج الغرفة، التفت يمينا و شمالا دون أن يرى أدنى حركة، جال جولات إلى أن خارت قواه دون أن يعثر على أي عامل و لا حتى عامل نظافة يدله على مكان الحالات المستعجلة! و بعد أن مارس الإحباط دوره في إنهاكه سمع كلاما قادما من إحدى الغرف فاتجه نحوها.. دق على الباب بقوة و هو يقول : - إنها تموت.. إنها تحتضر.. أرجوكم افتحوا افعلوا شيئا! من بين الأصوات أجابه أحدهم قائلا : ذللي لاهي إموت أيكم انت ولل هي؟!! و ضحك الجميع و أحدهم يقول : - ألعب انت ذ واحد من ذوك لخليطه! فصرخ قائلا : - إن لم تفتحوا ستموت المسكينة.. قالها و هو يرى وجهها شاحبا و كأن الحياة ما عرفته يوما و لا عرفها! فُتح الباب أمام عينيه بعد أن رفعهما عن المرأة الميتة ليرى رجالا يرتدون سترات طبية جالسين يلعبون الورق و آخر يقيم الشاي!.. رأى في وجوههم الإنكسار عندما رأوه يرتدي كما يرتدون، فألقى إليهم نظرة احتقار و أسف! استدار متجها إلى الغرفة التي الغرفة التي كانت فيها المرأة المتوفاة و مددها على السرير و ألقى نظرة على جثة الطفل الملقاة أرضا في وضعية لا يمكن أن يكون فيها سوى ميت! مدده إلى جوار أمه و نزع سترته الطبية و وضعها على وجهيهما لتحمله خطاه خارج المستشفى و كله ندم و ألم و لسان حاله يقول رحم الله أيام الأحلام!